الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***
الجزء الثالث {المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)} {بسم الله الرحمن الرحيم المر} قيل: معناه: أنا أعلم، الله أعلم وأرى. وقيل: مختصرة من لفظ المرسل، على عادة رمز المحبين. أو إشارة إلى العوالم الأربعة: فالألف لوحدة الجبروت، واللام لتدفق أنوار المكوت، والميم لحس عالم الملك والراء لسريان أمداد الرحموت. {... تِلْكَ آيَاتُ الكتاب والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ}. قلت: (تلك) مبتدأ. و(آيات): خبر، و(الذي أُنزل): مبتدأ، و(الحق): خبر، والجملة الثانية كالحجة على الجملة الأولى. يقول الحق جل جلاله: أيها المرسل المعظم، والحبيب المفخم، {تلكَ} الآيات التي تتلوها على الناس هي {آياتُ الكتاب} المنزل من حضرة قدسنا. {و} الكتاب أي: القرآن {الذي أُنزل إليك من ربك} هو {الحق} الذي لا ريب فيه، {ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يؤمنون}؛ لإخلالهم بالنظر والتأمل فيه. الإشارة: لَوْ صَفَت القلوب من الأكدار، ومُلئت بالمعارف والأنوار؛ لفهمتْ أسرار الكتاب، وجواهر معانيه، ولأدركت معرفة الحق من كلامه؛ لأن الكلام صفة المتكلم، ولكن أكثر الناس اشتغلوا بمتابعة الهوى، فصُرفوا عن فهم الكلام، وفاتهم معرفة المتكلم.
{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)} قلت: (الله): مبتدأ، (الذي رَفَعَ): خبره، ويجوز أن يكون الموصول صفة، والخبر: (يُدبر الأمر)، و(عَمَدَ): اسم جمع عمود، وقياس جمعه: عُمُد كرسول ورُسُل، وشهاب وشُهُب، وليس جمعاً خلافاً لأبي عبيد. قاله ابن عطية. وقال البيضاوي: جمع عِمَاد، كإهاب وأهب. وجملة: (ترونها): إما حال، أو استئنافية؛ فالضمير للسماوات، وإما صفة لعَمد فالضمير لها، أي: ليس لها عَمد مرئية، فيقتضي بالمفهوم أن لها عمداً لا تُرى. وقيل: إن عمدها جبل قاف المحيط بالدنيا. والجمهور: أنه لا عمد لها البتة. فالمراد نفي العمد، ونفي رؤيتها. قاله ابن جزي. يقول الحق جل جلاله: مستدلاً على وجوده، وكمال قدرته: {اللهُ الذي رفعَ السماواتِ} فوقكم كالسقف المرفوع {بغير عَمَدٍ}: أساطين، بل بقدرة أزلية، {ترونها} مرفوعة فوقكم. أو بغير عَمَد مرئية، بل بعمد خفية، وهي: أسرار الذات العلية؛ إذ لا فاعل سواه. {ثم استوى على العرش} استواء استيلاء وإحاطة، حتى صار العرشُ غيباً في إحاطة قهريته وأسرار ذاته. وقد كانت العرب تجعل لملوكها سريراً يجلسون عليه لتدبير المملكة، فخاطبنا الحق تعالى بقدر ما نفهم، ولذلك رتب عليه قوله: {وسخَّر الشمسَ والقمر}؛ لأن هذا من تدبير ملكه، أي: ذللهما لما أراد منهما، كالحركة المستمرة على حد من السرعة؛ لينتفع بهما عباده في معاشهم ومعالم دينهم. {كلٌّ} منهما {يجري لأجَلٍ مُسمى}: لمدة معينة تتم فيها أدواره، أو لغاية مضروبة ينقطع فيها سيرهما؛ وهي يوم القيامة، حين تكوّر الشمس والقمر. {يُدبر الأمرَ}؛ أمر ملكه من الإيجاد والإعدام، والإحياء والإماتة، وغير ذلك، {يُفصل الآياتِ}: ينزلها ويُبين معانيها مفصلة، أو يُحدث الدلائل واحداً بعد واحدٍ؛ {لعلكم بلقاء ربكم تُوقنون}: لكي تتفكروا فيها، وتتحقوا كمال قدرته فتعلموا أنّ مَنْ قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها قادر على الإعادة والجزاء. الإشلرة: الله الذي رفع سماوات الأرواح، وزينها بنجوم العلم وقمر التوحيد، وأشرق عليها شموس العرفان وأسرار التفريد، ثم استوى بأسرار ذاته وأنوار صفاته على العرش، وهو قلب العارف؛ لأنه سرير المعرفة، ومحل بيت الرب، وسخر شمس المعرفة وقمر التوحيد، يجريان بالترقي إلى محل التمكين، وهو الأجل المسمى لهما، يدبر أمر السير والترقي، ويُفصِّل دلائل الطريق الموصلة إلى عين التحقيق؛ لعلكم بالوصال إلى ربكم توقنون، حين يكون ذوقاً وكشفاً، والله تعالى أعلم.
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} قلت: (رواسي): جمع راسية، من رسى الشيء: ثبت، و(جنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان) مَنْ خَفَضَ عطف على (أعناب)، ومن رفع عطف على (جنات)، و(صنوان) نعت تابع، و(غير): عطف عليه. يقول الحق جل جلاله: {وهو الذي مدَّ الأرض}؛ بسطها طولاً وعرضاً؛ لتثبت عليها الأقدام وتتقلب عليها الحيوان والأنام، {وجعلَ فيها رواسي}: جبالاً ثوابت لتستقر وتثبت، فلا تميد كالسفينة، {و} جعل فيها {أنهاراً} مطرده دائمة الجري، من غير نفاد ولا فتور. ضمها إلى الجبال؛ لأنها أسبابٌ لتولدها في العادة. {ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} أي: وجعل فيها صنفين اثنين من كل الثمرات؛ فكل ثمرة فيها صنفان؛ أحمر وأسود، أو حلو وحامض، وقد خلق من كثير من الثمرات أصنافاً كثيرة؟ فالجواب: أن ذلك زيادة في الاعتبار، وأعظم في الدلالة على القدرة بذكر الاثنين؛ لأن دلالة غيرهما من باب أولى. ه. {يُغشى الليلَ النهارَ}، أي: يجعل الليلَ غشاءً على النهار ولباساً له، فيصير الجو مظلماً بعدما كان مضيئاً. {إنَّ في ذلك لآياتٍ}؛ دلائل وجوده وباهر قدرته {لقوم يتفكرون} فيها؛ فإن وجودها وتخصيصها في هذا الشكل العجيب، دليل على وجود صانع حكيم، دبر أمرها، وهيأ أسبابها. {وفي الأرض قِطَعٌ متجاوراتٌ}؛ قريب بعضها من بعض، مع اختلاف أوصافها، بعضها طيبة وبعضها سبخة، وبعضها رخوة وبعضها صلبة، وبعضها يصلح للزرع دون الشجر، وبعضها بالعكس، وبعضها معادن مختلفة. ولولا تخصيص قادر مخصص لتلك الأفعال، على وجهٍ دون وجه، لم يكن الحكم كذلك؛ لاشتراك تلك القطع في الطبيعة الأرضية، وما يلزمها ويعرض لها بتوسط ما يعرض من الأسباب السماوية، من حيث إنها متضامة متشاركة في السبب والأوضاع. قاله البيضاوي: {وجناتٌ من أعناب وزرعٌ ونخيلٌ}؛ أي: وفي الأرض أيضاً بساتين فيها أنواع من الأعناب والزروع والنخيل، من صفة تلك النخيل: {صِنْوَانٌ} أي: نخلات كثيرة متفرعة من أصل واحد، {يُسقى بماءٍ واحد ونُفَضِّلُ بعضها على بعضٍ في الأُكُل} أي: في الثمر المأكول؛ قدراً وشكلاً، وطعماً، ورائحةً ولوناً، مع اتفاق الماء الذي تُسقى به. وذلك مما يدل أيضاً على الصانع القادر الحكيم؛ فإن إيجادها، مع اختلاف الأصول والأسباب، لا يكون إلا بتخصيص قادر مختار. وفيه رد على الطبائعيين. {إن في ذلك لآياتٍ لقوم يعقلون}: يستعملون عقولهم بالتفكر والاعتبار، فيُدركون عظمة الواحد القهار. الإشارة: ذَكَرَ أولاً سماء الأرواح، وما يُناسبها من أنوار التوحيد وأسرار التفريد، وذكر هنا أرض النفوس، وما يلائمها من جبال العقول وأنهار العلوم، فقال: وهو الذي مد أرض النفوس، وجعل فيها جبالاً من العقول الشامخة، حتى أدركت الصانع، وتحققت بوجوده ووحدانيته، بالدلائل الواضحة، والبراهين القطعية، وأنبع منها أنهاراً من العلوم الرسمية؛ والرقائق الوعظية. وجعل فيها من كل صنف؛ من ثمار ما جنت بمجاهدتها صنفين اثنين: قبضاً وبسطاً منعاً ووجداً، ذلاً وعزاً، فقراً وغنىً. يغْشيانها غشاءَ الليل للنهار؛ فإذا كان ليل القبض غشيه نهار البسط، فيزيله، وإذا كان المنع، غشية الوجد، وإذا كان الذل غشيه العز، وإذا كان الفقر غشيه الغنى، وهكذا. ودوام حال من قضايا المحال. وفي أرض النفوس أيضاً قطع متجاورة، مع اختلاف ألوانها وطبائعها، وعلومها ومعارفها، ومواجدها وألسنتها. وفيها أيضاً جنات المعارف إن اتصلت بطبيب عارفٍ من أعناب الحقائق الناشئة عن خمرة الأزل، وزرع الشرائع الناشئة عن الكسب والتحصيل، ونخيل الأذواق والوجدان، صنوان وغير صنوان يعني من تعتريه الأحوال، ومن لا تعتريه لكمال رسوخه، تُسقى بخمره واحدة، وهي الخمرة الأزلية، على أيدي الوسائط، أو بلا وسائط، وهو نادر. ونُفضل بعضها على بعض في الأذواق والوجدان؛ فترى العارفين بعضهم قطب في الأحوال، وبعضهم قطب في المقامات؛ كان الجنيد رضي الله عنه قطباً في العلوم، وكذا الشاذلي والجيلاني والغزالي، وأمثالهم. وكان الشيخ أبو زيد قطباً في الأحوال، وكان سهلُ التسْتُري قطباً في المقامات. والأولياء كلهم لا يخرجون عن هذا التقسيم، كل واحد وما يغلب عليه، مع مشاركته لغيره في الثلاث. والله تعالى أعلم.
{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)} قلت: (فعجب): خبر، و(قولهم): مبتدأ، و(أئذا كنا...) الخ محكي به. واختلف القراء هنا، وفي مواضع من القرآن، فمنهم من قرأ بالاستفهام في الأول دون الثاني، ومنهم بالعكس، ومنهم من قرأ بالاستفهام فيهما. فمن قرأ بالاستفهام في الأول دون الثاني فإنما القصد هو الثاني؛ لأنهم إنما أنكروا كون الإنسان يصير تراباً ثم يُبعث، وأما كونهم يصيرون تراباً فلا إنكار عندهم فيه. ومن قرأ بالاستفهام في الثاني فعلى الأصل، ومن قرأ بالاستفهام فيهما فزيادة تأكيد. والعامل في (إذا) محذوف دل عليه: {لفي خلق جديد} أي: أُنجَدد إذا... الخ. يقول الحق جل جلاله: {وإن تعجب} يا محمد من إنكارهم البعث {فعجبٌ قولُهم} أي: فقولهم حقيق بأن يتعجب منه، فإنَّ من قدر على إنشاء ما قصَّ عليك من عجائب السماوات والأرض، وأنواع الثمار على اختلاف أصنافها وألوانها، كانت الإعادة أيسر شيء عليه، فالآيات المعدودة، كما هي دالة على وجود المبدأ، فهي دالة على إمكان الإعادة، لأنها دالة على كمال قدرته تعالى. ثم فسر قولهم في الإنكار قالوا: {أَئذا كنا تراباً أئنا لفي خَلْقٍ جديد} أي: أَنُجَدِّدُ إذا متنا، وكنا تراباً، {أولئك} القائلون ذلك، أو المنكرون البعث، {الذين كفروا بربهم}؛ لأنهم كفروا صفة القدرة، {وأولئك الأغلالُ في أعناقهم} أي: مقيدون بالضلال، قد أحاط بهم الشقاء، ولا يُرجى خلاصهم. أو: يُغلّون يوم القيامة. {وأولئك أصحابُ النار هم فيها خالدون} لا ينفكون عنها. وتوسط ضمير الفصل؛ التخصيص الخلود بالكفار، ففيه رد على المعتزلة. والله تعالى أعلم. الإشارة: إنكار بعث الأرواح من غفلاتها وجهلها، كإنكار بعث الأشباح بعد موتها، يُتعجب من الأول كما يتعجب من الثاني؛ فالقدرة صالحة، فمن قدر على بعث الأشباح بعد موتها الحسي قدر على بعث الأرواح بعد موتها المعنوي: «من استغرب أن ينقذه الله من شهوته، وأن يخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية؛ {وكان الله على كل شيء مقتدراً}»، وقد أحيا الله أرواحاً كثيرة كانت ميتة بالجهل والمعاصي، فصارت عارفة بالله، من خواص أولياء الله مَنْ كانوا لصوصاً فصاروا خُصوصاً، ومنهم من كانوا كفاراً فصاروا أبراراً. وبالله التوفيق.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)} قلت: «المَثُلات»: جمع مَثُلَة، كَسَمُرة، وهي العقوبة القظيمة، التي تجعل الإنسان مثلاً لمن بعده. وفيها لغات وقراءات شاذة. و(على ظلمهم): حال، والعامل فيه: المغفرة. يقول الحق جل جلاله: {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} أي: بالنقمة قبل العافية، طلبوا نزول العذاب الذي أوعدهم به؛ استهزاء، {وقد خَلَتْ}: مَضَتْ {من قََبلِهم المَثُلات}: عقوبات أمثالهم من المكذبين، أو المصيبات الدواهي، حتى صاروا مثلاً لمن بعدهم. فما لهم لم يعتبروا، ولم يخافوا حلول مثلها عليهم؟ {وإنَّ ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} أي: مع ظلمهم أَنْفُسَهم بالكفر والمعاصي، فسترهم وأمهلهم في الدنيا. فالمغفرة هنا لغوية، وقيل: يغفر لهم بالتوبة. وقيل: بلا قيد التوبة، بل بمجرد الحلم. قال البيضاوي: وفيه جواز العفو قبل التوبة، فإن التائب ليس على ظلمه، ومن منع ذلك خص الظلم بالصغائر المكفرة باجتناب الكبائر. ه. {وإنَّ ربك لشديدُ العقاب} لمن يريد تعذيبه، أو للكفار. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَوْلاَ عَفْوُ اللَّهِ وَتَجَاوُزُه مَا هنَأ أَحَد العَيْش، وَلَوْلاَ وَعِيدُهُ وعِقَابُه لاتَّكَلَ كُلُّ أحَد» قاله البيضاوي. الإشارة: ترى بعض المستهزئين بالأولياء يؤذيهم بلسانه، أو بغيره، ويقول: إن كان بيده ما يفعل يفعله بي، والله تعالى يقول: «مَنْ آذَى لِي ولياً فقد آذَنْتُهُ بالحَرْب» ولكن الحق تعالى يُمهل ولا يُهمل؛ {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب}.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)} (وسارب): عطف على جملة (من هو) أي: ومن هو سارب، ليكمل التقسيم أربعة: من أسر، ومن جهر به، ومن استخفى، ومن سرب؛ أي: برز. انظر ابن جزي. و(المتعال): منقوص، يجوز في الوقف عليه حذف الياء وإثباتها، كذلك: هادٍ، وواقٍ، وشبهه، غير أن الراجح في المعرّف بأل الإثبات، وفي المُنَوّنِ: الحذف. قال ابن مالك: وَحَذْفُ يَا المَنقُوصِ ذي التَّنوين ما *** لَمْ يُنْصَب: أَوْلَى مِنْ ثُبُوتٍ فَاعْلَمَا وغَيْرُ ذِي التَّنْوين بالْعَكْسِ، وفِي *** نَحْو مُرٍ: لُزُومُ رَدِّ اليَا اقْتُفِي وأثبتها ابن كثير في الجميع، ووافقه يعقوبُ في المُعرّف بأل، وَحَذَفَها غيرهُ مطلقاً. يقول الحق جل جلاله: {ويقول الذين كفروا} من أهل مكة: {لولا}: هلا {أنزل عليه آيةٌ} أي: معجزة واضحة {من ربه} كما أوتي موسى وعيسى. ولم يعتدوا بالآيات المنزلة عليه؛ كانشقاق القمر وانقياد الشجر، وتسليم الحجر، وأعظمها: القرآن العظيم. وذلك عناد منهم. قال تعالى: {إنما أنت مُنِذرٌ}؛ مُرْسَل إليهم لتنذرهم كغيرك من الرسل وما عليك إلا الإتيان بما تصح به نبوتك من جنس المعجزات، لا مما يُقترح عليك. {ولكل قوم هادٍ}؛ رسول يهديهم إلى الحق والصواب، مخصوص بمعجزات من جنس ما هو الغالب عليهم؛ ففي زمن موسى عليه السلام كان الغالب عليهم السحر، فأوتي بالعصا تنقلب حية؛ ليبطل سحرهم، وفي زمن عيسى عليه السلام كان الغالب عليهم الطب، فأوتي إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى الذي يعجزون عن مثله، وفي زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان الغالب عليهم البلاغة والفصاحة، بها كانوا يتباهون ويتناضلون، فأوتي القرآنَ العظيم، أعجز ببلاغته البلغاء والفصحاء. أو: لكل قوم هاد، يقدر على هدايتهم، وهو الله تعالى، أي: إنما عليك الإنذار، والله هو الهادي لمن يشاء، أو: ولكل قوم واعظ ومذكر من نَبِيِّ أو وَليّ. رُوي أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا المُنْذِرُ وَأنْتَ يا عَلِيُّ الهَادي». ثم أردف ذلك ما يدل على كمال علمه وقدرته، وشمول قضائه وقدره؛ تنبيهاً على أنه تعالى قادر على إنزال ما اقترحوه، وإنما لم يُنزله؛ لعلمه بأن اقتراحهم كان عناداً لا استرشاداً. أو ان وقت الإنزال لم يحضر، فقال: {الله يعلمُ ما تحملُ كلُّ أنثى} هل هو ذكر أو أنثى، أو تام أو ناقص، أو حسن أو قبيح. وهو من الخمس التي اختص بها. {وما تَغِيضُ الأرحامُ وما تزداد} أي: ما تنقص في الجثة بمرض الجنين او إسقاطه، وما تزداد بنمو الجنين إلى أمده أو أكثر. قال البيضاوي: مدة الحمل عندنا اربع سنين، وخمس عند مالك، وسنتان عند أبي حنيفة. رُوي أن الضحاك وُلد لسنتين، وهرم بن حيان لأربع سنين. وأعلى عدده لا حد له. قلت: يعني مع تحققه وقيل: المراد نقصان دم الحيض وزيادته. ه. {وكل شيء عنده بمقدار}: بقدر محدود، ووقت مخصوص، لا يجاوزه، ولا ينقص عنه، فالحق تعالى خص كل حادث بوقت مخصوص معين، وهيأ له أسباباً تسوقه إليه على ما تقتضيه حكمته. {عالمُ الغيبِ والشهادة} أي: الغائب عن الحس، والظاهر فيه {الكبيرُ}: العظيم الشأن، الذي يصغر كل شيء دون عظمته وكبريائه، {المتعال}: المستعلي عن سمة الحوادث، أو: المستعلي بقدرته على كل شيء. {سواءٌ منكم من أسرَّ القولَ} في نفسه {ومن جهر به} لغيره، {ومن هو مُستَخْف بالليل}: طالب للخفاء مستتراً بظلمة الليل، {و} من هو {سارب بالنهار} أي: بارز فيه. فقد أحاط الله بذلك، علماً وسمعاً وبصراً. فالآية مقرره لما قبلها من كمال علمه وشموله. {له معقباتٌ} أي: لمن أسر أو جهر، أو استخفى أو برز، {معقبات}: ملائكة تعتقب في حفظه، اي: يعقب بعضُها بعضاً، اثنان بالليل واثنان بالنهار، أو: لأنهم يعقبون أقواله وافعاله فيكتبونها. أو: جماعة من الملائكة وَكَّلهم الله بحفظ الآدمي، يعقب بعضُهم بعضاً، وهو مناسب لقوله: {يحفظونه من أمر الله} أي: يحرسونه من الآفات التي تنزل من امر الله وإرادته. أو: يحفظونه من عقوبة الله وغضبه. إذا أذنب أمهلوه واستغفروا له. أو: يراقبون أحواله من أجل أمر الله، إذ أمرهم الله بذلك، أو يكون صفة للمعقبات، أي: له معقبات من أجل أمر الله، حيث أمرهم بحفظه. وقيل: الضمير في {له}: يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، المتقدم في قوله: {إنما أنت منذر}، فتكون نزلت فيمن اراد غدر النبي صلى الله عليه وسلم سراً، على ما يأتي في الآية الآتية. والله تعالى أعلم. الإشارة: قد تقدم مراراً حالُ من طلب الكرامة من الأولياء، وأنه جاهل بهم، ولا يعرفهم ما دام يلتمس الكرامة منهم. وأيُّ كرامة أعظم من الاستقامة، والمعرفة بالله، على نعت الشهود والعيان؟!. وقوله تعالى: {ولكل قوم هادٍ} أي: ولكل عصر عارف بالله، يهدي الناس إلى حضرة الله، وهم ورثة الهادي الأعظم والنبي الأفخم، نبينا عليه الصلاة والسلام أولهم سيدنا علي كرم الله وجهه؛ للحديث المتقدم، لأنه أول من ظهر علم التصوف وأفشاه، ثم أخذ عنه الحسن البصريّ وهذبه، ثم حبيب العجمي، ثم داود الطائي، ثم معروف الكرخي، ثم سري السقطي، ثم إمام الطريقة: أبو القاسم الجنيد، ثم انتشر في الأرض، فلكل عصرٍ رجالٌ يحملون لواء الحقيقة ويهدون الناس إلى لباب الشريعة. وهم العارفون بالله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَبْعَثُ اللهُ عَلَى رأسِ كلِّ مائِة سنةٍ منْ يُجَددُ لهذِه الأمة أمرَ دِينِهَا» أي: يجدد الطريقة بعد دروسها، ويحيي الحقيقة بعد خمود أنوارها، ويُظهر الشريعة بعد خفاء أعلامها. وقد يكون واحداً ومتعدداً. وقد بعث الله في رأس هذه المائة الثالثة عشر، أربعةً، أحيا الله بهم الحقيقة، وأظهر بهم أنوار الشريعة، يمشون في الأرض بالنصيحة، ويهدون الناس إلى رب العالمين، والله ولي المتقين، وشهرتهم تُغني عن تعيينهم، وتقدم اثنان في العقود. وقوله تعالى: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى}: ما تحمل كل نفس من العلوم، وما تحمل كل روح من الأسرار. وما تغيض الأرحام، أي: القلوب، فقد تنقص أنوارها بمباشرة الأغيار، وقد تزداد بالتفرغ أوصحبة العارفين الكبار. وكل شيء عنده بمقدار، فالفتح له وقت معلوم، وحد محدود، والمراتب والمقامات مقسومة محدودة في الأزل، كل أحد ياخذ ما قُسم له. وقوله تعالى: {سواء منكم من أسر القول...} إلخ، فيه تحقيق المراقبة وتشديد المحاسبة على الخواطر والقلوب. والله تعالى أعلم.
{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)} قلت: (وإذا): ظرف، والعامل فيه: ما دل عليه الجواب، أي: لا يُرد ما قضى إذا أراد إنفاده. و(خوفاً وطعماً): منصوبان على العلة بتقدير المضاف، أي: إرادة الخوف والطمع؛ ليتحد الفاعل، أو بتأويل: يجعلكم ترون البرق خوفاً وطمعاً. و(الثقال): نعت للسحاب، وجَمَعَه؛ لأن السحاب جنس بمعنى الجمع. وجملة: {وهم يجادلون}: إما استئنافية، أو حال من الموصول، و(المِحال): المكر والخديعة. من مَحَل بفلان إذا كاده وعرَّضه للهلاك، ومنه تَحَمَّلَ: إذا تكلَّف استعمال الحيلة، فالميم أصلية، ووزنه: فِعَال، وقيل: مشتق من الحيلة، فالميم زائدة، ووزنه: مِفْعَل، وأصله: مِحْيَل. يقول الحق جل جلاله: {إن الله لا يُغَيّر ما بِقومٍ} من النعم والعافية إلى النقمة والبلية {حتى يُغَيِّروا} هم {ما بأنفسهم} من الطاعة وترك المعصية، إلى ارتكاب الذنوب. فلا يسلب النعم عن قوم إلا بارتكاب ذنب، ولو من البعض إذا سكت الكل. {وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مردّ له} أي فلا رادّ له ولا معقب لحكمه، {وما لهم من دونه من وَالٍ} أي: ليس لهم من يلي أمرهم، ويدفع عنهم السوء الذي قضاه الله عليهم، وأراد نزوله بهم؛ لأن وقوع خلاف مراد الله تعالى محال. {هو الذي يُريكم البَرق خوفاً وطمعاً} أي: خوفاً مما ينشأ عن البرق من الصواعق والأمور الهائلة، وطمعاً في نزول الغيث الذي يكون معه غالباً، {ويُنشئ} أي: يخلق {السحاب}؛ الغيم المسْحب، {الثِّقال}: المثقل بالمطر الحاملة له، {ويُسبحُ الرعدُ بحمده} أي: متلبساً بحمده. أو: يدل الرعد بنفسه على وحدانيته تعالى وكمال قدرته ملتبساً بالدلالة على كمال فضله، ونزول رحمته. وعن ابن عباس رضي الله عنه: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد؛ فقال: «مَلَكٌ مَوَكَّلُ بالسَّحابِ، له مَخَارِيقُ مِنْ نَارٍ يَسُوقُ السَّحَاب». {و} تسبح أيضاً {الملائكة من خِيفَته} أي: من خوفه وإجلاله، {ويُرسل الصواعقَ}؛ نار تنزل من السماء وقت ضرب الرعد، {فيصيب بها ما يشاء} فيهلكه {وهم يجادلون في الله} أي: الكفار، حيث يكذبون رسوله فيما يصفه به من كمال العلم والقدرة، والتفرد بالألوهية، وبعث الناس وحشرهم للمجازاة، {وهو شديد المِحَال} أي: شديد المكر بأعدائه، الذين أرادوا أن يمكروا بنبيه عليه الصلاة والسلام. رُوي أن عامر بن الطُفَيل وأرْبَدَ بن ربيعة وفدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصدين لقتله، فأخذ عامر بالمجادلة مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغله، ودار أرْبَدُ من خلفه؛ ليضربه بالسيف، فتنبه له الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: «اللَّهُمَّ اكفنيهما بِمَا شِئتَ»، فأرسل الله على أرْبد صاعقة فقتلته، ورُمي عامرٌ بغدة، فمات في بيت امرأة سلُوليَّة، فكان يقول: غُدة كغُدَّة البعير، وموت في بيت امرأة سلُولِيَّة! فنزلت الآية من أولها، وهو قوله: {له معقبات. ..} إلخ، على قول. الإشارة: من جريان حكمته تعالى في خلقه أنه لا يسلب النعم عنهم إلا بسوء أدبٍ منهم، كلٌّ على قدر مقامه، فالنعم الظاهرة يسلبها بترك الطاعة الظاهرة، أو بالمخالفة الظاهرة، والنعم الباطنة يسلبها بترك المراقبة الباطنة أو المشاهدة الباطنة، فلكل مقام حقوق وآدب؛ فمن أَخَلَّ بحقوق مقام نقص له منه، إلا أن يتوب. وقد يسيء الأدب فتؤخر العقوبة عنه، فيظن أنه لم يُسْلب. ولو لم يكن إلا ترك المزيد. وقد يبعد، وهو لا يشعر، ولو لم يكن إلا وتركه وما يريد. كما في الحِكَم: «إن الله لا يغير ما في القلوب من أنوار الشهود والعيان، حتى يغيروا ما بأنفسهم من حسن الأدب بسوء الأدب». وهذا ما لم يتحقق له مقام المحبوبية والتمكن مع الله في المعرفة. وإلا فالرعاية والعناية محفوفة بقلبه، فقد يبلغ الولي إلى مقام يقال له: افعل ما شئت فقد غفرتُ لك، كما وقع لأهل بدر، وارجعٌ ما تقدم عند قوله: {أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] وقد يُغير الله قلب عبده اختباراً له، فيسلبه حلاوة المعاملة أو المعرفة، فإن هو اضطرب وتضرع ردَّ له حاله، وإن لم يضطرب ولم يفزع إلى الله لم يرد له شيئاً. وإليه الإشارة بقوله: {وإذا اراد الله بقوم سوءاً فلا مَردَّ له...} الآية. هو الذي يُريكم بَرْقَ لمعان أنوار المشاهدة، عند الاستشراف على الحضرة القدسية، خوفاً من الرجوع؛ لعدم إطاقة ذلك النور، وطمعاً في الوصول إلى التمكين، فلا يزال تترادف عليه البروق حتى يستمر ذلك كبرق متصل، وهي أنوار المواجهة، وينشئ سحاب الواردات ثقالاً بالعلوم والأسرار، ويرسل الصواعق تصعق وجود الحس عن أسرار المعاني، فيصيب بها من يشاء ممن سبقتَ له العناية. وأهل الإنكار والتكذيب بطريق الخصوص يجادلون في الله بتكذيب أوليائه وإنكار هذه الأنوار، وهو شديد المحال، فيمكر بهم ويتركهم في مقام البُعد، وهم لا يشعرون.
{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (15)} يقول الحق جل جلاله: {له دعوةُ الحق}؛ لأنه الذي يحق أن يُدعى فيجيب، دون غيره؛ فإنما له الدعاء الباطل؛ لأنه يُدعى فلا يسمع ولا يجيب. أو: له دعوة الحق، وهي كلمة التوحيد؛ «لا إله إلا الله، فمن دعا إليها فقد دعا إلى الحق. والأول أرجح؛ لمناسبة قوله: {والذين يَدْعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء}، أي: والأصنام الذين يدعونهم من دونه لا يستجيبون لهم بشيء، مما طلبوا، أو: والمشركون الذين يدعون أصناماً من دون الله لا يستجيبون لهم بشيء، فحذف المفعول؛ للدلالة عليه، فلا يستجيبون لهم {إلا كباسط كَفَّيْه إلى الماء}؛ إلا استجابة كاستجابة من بسط كفيه إلى الماء يشير إليه، {ليبلغ فاهُ}؛ أي: يطلب منه أن يصعد إليه ويبلغ فاه {وما هو ببالغه} أي: ليس الماء ببالغ فاه، لأنه جماد لا يشعر بدعائه، ولا يقدر على إجابته من حيث هو، شَبّه إجابة الأصنام لمن عبدهم بإجابة الماء لمن بسط إليه كفه، وأشار إليه بالإقبال إلى فيه، ولا يبلغ فاه أبداً؛ لأنه جماد لا يسمع ولا يعقل، وكذلك الأصنام لا تسمع ولا تجيب من بسط إليها يده ليطلب منها؛ لأنها خشب وأحجار. {وما دعاءُ الكافرين} للأصنام، {إلا في ضلال} وخسران وضياع. ثم ذكر الحقيق بالعبادة والطلب، فقال: {ولله يسجدُ من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً} يحتمل أن يكون السجود حقيقة، فالملائكة والمؤمنون يسجدون طوعاً في الشدة والرخاء يسجدون كرهاً في الشدة والضرورة. أو يكون مجازاً؛ وهو: انقيادهم لما أراد منهم، شاؤوا أو كرهوا. {و} تسجد أيضاً {ظلالُهم}؛ بانقيادها لله تعالى في طولها وقصرها، وميلها من جانب إلى جانب، {بالغدو والآصالِ}، أي: طرفَيْ النهار. وخُصَّ هذان الوقتان وإن كان سجودهما دائماً؛ لأن الظلال إنما تَعْظُم وتكبر فيهما. وقال الواحدي: كل شخص مؤمن أو كافر ظله يسجد لله تعالى، ونحن لا نقف على كيفية ذلك. ه. وقال القشيري: ذلك سجود شهادة، لا سجود عبادة، فإن امتنع من إقامة الشهادة قوم قالةً فقد شهد كل جزء منهم من حيث البرهان والدلالة، فكل مخلوقٍ من عين وأثر، حجر ومدر أو غير ذلك؛ فمن حيث البرهان لله ساجد، ومن حيث البيان للواحد شاهد. ه. وقال أبو حيان: عن الفراء: الظل في الأصل مصدر، ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم طولُه بسبب انخفاض الشمس، وقصره بسبب ارتفاعها، فهو منقاد لله تعالى في طوله وميله من جانب. ثم قال: والحاصل أنها جارية على مقتضى إرادته تعالى ومشيئته، من الامتداد والتقلص، والفيء والزوال. ه. وقيل: لا يعلم تسبيح الجماد والنبات والحيوان البهيمي وسجودها؛ إلا مَنْ كاشفه الله تعالى بحقيقة ذلك من نبي أو ملك أو صدِّيق. واما حمدها لله تعالى وتسبيحها بلسان الحال فيعلمه العلماء. قاله المحشي الفاسي. الإشارة: كل من تعلق في نوائبه بغير الله، أو ركن في حوائجه إلى غير مولاه، فهو كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، وليس بواصل إليه، ولا ببالغ قصده ومناه، بل دعاؤه في تلف وخسران، وجزاؤه الخيبة والحرمان. فالواجب على العبد أن يَقْصر حوائجه على مولاه، وينقاد إليه بكليته في حال الطوع والإكراه. إما أن ينقاد إليه بالإحسان، أو بسلاسل الامتحان.» عَجِبَ رَبُّكَ من قَوْمٍ يُساقُون إلى الجَنَّةِ بالسَّلاسِل «.
{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)} يقول الحق جل جلاله: {قل} يا محمد للمشركين: {من ربُّ السماوات والأرض} أي: خالقهما، ومدبر أمرهما، {قل} لهم: هو {الله} لا خالق سواه، ولا مدبر غيره، أجاب عنهم بذلك، إذ لا جواب لهم سواه؛ لأنهم يقرون به، ولكنهم يشركون به، فأبطل ذلك بقوله: {قل أفاتخذتم من دونه أولياءَ}؛ أصناماً جامدة تتولونها بالمحبة والنصرة والدفع، وهم جوامد {لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً} أي: لا يقدرون أن يجلبوا لأنفسهم نفعاً، ولا يدفعون عنهم ضراً، فكيف يقدرون أن ينفعوا غيرهم ممن عبدهم، أو يدفعون عنه ضراً؟!. وهو دليل على ضلالهم وفساد رأيهم، في اتخاذهم الأصنامَ أولياء، وجاء أن يشفعوا لهم. {قل هل يستوي الأعمى والبصيرُ} أي: الكافر الجاهل، الذي عميت بصيرته بالجهل والشرك، والمؤمن الموحد الذي انفتحت بصيرته بالإيمان والعلم. أو المعبود الغافل عن عبادة من عبده، والعالم بأسرار عباده. {أم هل تستوي الظلماتُ والنور}؛ الكفر والإيمان، أو الجهل والعلم. {أم}: بل {جعلوا لله شركاءَ} من صفتهم، {خَلقوا كخلقه فتشابه}؛ التبس {الخلقُ عليهم} فلم يدروا ما خلق الله مما خلق أصنامُهم، وهذا كله داخل الإنكار. والمعنى: هل خلق شركاؤهم خلقاً كخلق الله، فالتبس الخلق عليهم، فلم يُميزوا خلق الله من خلق أصنامهم، حتى ظنوا أنها تستحق أن تُعبد مع الله، أو يُطلب منها حوائج دون الله؟!. ثم أبطل ذلك بقوله: {قل اللَّهُ خالقُ كل شيء}، قال البيضاوي: والمعنى أنهم ما اتخذوا له شركاء خالقين مثله حتى يتشابه الخلق عليهم، فيقولوا: هؤلاء خلقوا كما خلق الله، واستحقوا العبادة كما استحقها، ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق، فضلاً عما يقدر عليه الخالق. ه. {قل اللهُ خالق كل شيء}؛ لا خالق غيره فيشاركه في العبادة. جعل الخلق موجب الخلق مُوجَب العبادة، ولازم استحقاقها، ثم نفاه عما سواه؛ ليتحقق انفراده بالربوبية والقهرية كما أفاد قوله: {وهو الواحدُ} في الألوهية، {القهار} بتصريف أحكام الربوبية. ه. الإشارة: إذا علِم العبدُ أن ربه قائم بأمر خلقه، مدبر لشأن ملكه، من عرشه إلى فرشه، جعل حوئجة كلها وقْفاً عليه، وانحاش بكليته إليه، ورفع همته عن خلقه، إذ ليس بيدهم ضر ولا نفع، ولا جلب ولا دفع، بل هم عاجزون عن إصلاح أنفسهم، فكيف يقدرون أن ينفعوا غيرهم؟! وفي الحكم العطائية: «لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك فيكف يرفع إلى غيره ما كان هو له واضعاً، من لا يستطيع أن يرفع حاجة عن نفسه: فكيف يستطيع أن يكون لها من غيره رافعاً». وقال بعض العارفين من المُكَاشَفين رضي الله عنهم: قيل لي في نوم كاليقظة، أو يقظة كالنوم: لا تُبْديَنّ فاقة فأضَاعفها عليك، مكافأة لسوء أدبك، وخروجك عن حد عبوديتك. إنما ابتليتك بالفاقة لتفزع بها إليَّ، وتتضرع بها لَديَّ، وتتوكل فيها عليَّ. سبكتك بالفاقة لتصير ذهباً خالصاً، فلا تزيفن بعد السبك، وَسَمْتُكَ بالفاقة وحكمت لنفسي بالغنى، فإن وصلتها بي وصلتك بالغنى، وإن وصلتها بغيري قطعت عنك مواد معونتي، وحسمت أسبابك من أسبابي، طرداً لك عن بابي. فمن وكلتُه إليَّ ملك، ومن وكلته إليه هلك. ه. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: آيست من نفع نفسي لنفسي، فكيف لا آيس من نفع غيري لها، ورجوت الله لغيري فكيف لا أرجو لنفسي؟. ه. فالبصير من اعتمد في أموره على مولاه. والأعمى من ركن في حوائجه إلى سواه. فأنوار التفويض والتسليم لا تستوي مع ظلمات الشرك والتدبير. {قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور}. بالله التوفيق.
{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)} قلت: (جُفاء): حال. و(الحسنى): مبتدأ، و(للذين): خبر مقدم. و(الذين لم يستجيبوا): مبتدأ و(لو أن): خبر، أو (الذين): متعلق بيضرب، و(الحسنى): نعت لمصدر محذوف، و(الذين): معطوف على (الذين) الأولى، أي: يضرب الأمثال للذين استجابوا الحسنى وللذين لم يستجيبوا، ثم استانف قوله: لو أن... إلخ. يقول الحق جل جلاله: {أنزل من السماء} أي: السحاب، أو ناحية السماء، {ماءً}؛ مطراً {فسالتْ} به {أودية}: أنهار، جمع وادٍ، وهو الموضع الذي يسيل الماء فيه بكثرة، فاتسع واستعمل للماء الجاري فيه. {بقَدَرها} أي: بقَدَر صغرها وكبرها، كل يسيل على قدره، أو بقدر ما قسم في قسمة الله تعالى، وعلم أنه نافع غير ضار، {فاحتمل السيلُ زَبَداً} أي: رفعه على وجه الماء، وهو ما يحمله السيْل من غذاء ونحوه، أو ما يطفو على الماء من غليانه، {رابياً}: عالياً على وجه الماء، {ومما تُوقدون عليه في النار} من الذهب وفضة، وحديد ورصاص ونحاس وغيره، {ابتغاءً} أي: لطلب {حليةٍ} كالذهب والفضة، {أو متاع} كالحديد والنحاس يصنع منه ما يتمتع به؛ من الأواني وآلات الحرب والحرث. والمقصود بذلك: بيان منافعها، فكل واحد منهما له {زَبَدٌ مثله} أي: مثل زبد الماء، وهو خبثه الذي تخرجه النار عند سبكه. {كذلك يَضْرِِبُ اللَّهُ الحقَّ والباطل}؛ فمثل الحق وهو العلم بالله وبأحكامه كمثل الأمطار الغزيرة، ومثل القلوب التي سكن فيها، وجرت حِكَمُه على ألسنة أهلها؛ كالأودية والأنهار والخلجان، كلٌّ يحمل منه على قدره، وسعة صدره، ومثل الباطل الذي دمغه وذهب به؛ كالزبد وخبث الحديد والنحاس، أو الذهب والفضة. وسيأتي في الإشارة تكميله إن شاء الله. ورُوِي مثل هذا عن ابن عباس. وإنكار ابن عطية له جمود، وتَذَكرْ حديث البخاري: «مثل ما بعثني الله به من الهدى...» الحديث، فإنه يشهد لذلك التأويل. وتقدم له بنفسه في قوله: {أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ} [يوسف: 39] ما يشير إلى تفسير أهل الإشارة والرموز. وراجع ما تقدم لنا في خطبة الكتاب يظهر لك الحق والصواب. قال البيضاوي: مُثِّلَ الحقُّ في إفادته وثباته بالماء الذي ينزل من السماء، فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة، فتنفع به أنواع المنافع، ويمكن في الأرض، فيثبت بعضه في منابعه، ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والآبار، وبالفِلِزِّ الذي ينتفع به في صَوْغ الحلي، واتخاذ الأمتعة المختلفة، ويدوم ذلك مدة متطاولة. والباطلُ، في قلة نفعه وسرعة ذهابه، بزبدهما، وبيَّن ذلك بقوله: {فأما الزَّبدُ فيذهب جُفَاءً}، أي: مَرْمياً به، من جفاه: رمى به وأبعده، أي: يرمى به السيل والفلز المذاب. ه. {وأما ما ينفع الناس} كالماء، وخالص الذهب أو الحديد، {فيمكثُ في الأرض} لينتفع به أهلها. {كذلك يضرب اللهُ الأمثالَ} لإيضاح المشكلات المعنوية، بالمحسوسات المرئية. {للذين استجابوا لربهم} بالإيمان والطاعة، {الحسنى} أي: المثوبة الحسنى، أو الجنة. {والذين لم يستجيبوا له} من الكفرة {لو أنَّ لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به} من هول ذلك المطلع. أو: يضرب الأمثال للذين استجابوا الاستجابة الحسنى، والذين لم يستجيبوا له. ثم بيَّن مثال غير المستجيبين بقوله: {لو أن لهم...} إلخ. {أولئك لهم سُوءُ الحساب}؛ أقبحة وأشده، وهو أن يناقش فيه، بأن يحاسبَ العبد على كل ذنب، ولا يغفر منه شيء، {ومأولهم}: مرجعهم {جهنمُ وبئس المهادُ}؛ الفراش والمستقر، والمخصوص محذوف، أي: هذا. الإشارة: قد اشتملت الآية على أمثلة: مثال للعلم النافع، ومثال للعمل الخالص، وللحال الصافي. فمثَّل الحقُّ تعالى العلم النافع بالمطر النازل من السماء، فإنه تحيا به الأرض، وتجري به الأودية والعيون والآبار، ويحبس في الخلجان والقدور لنفع الناس، وتتطهر به الأرض من الخبث؛ لأنه ترمى به السيول، فيذهب جفاء، كذلك العلم النافع تحيا به النفوس بعد الموت بالجهل والشك، وتحيا به الأرواح بعد موتها بالغفلة والحجاب، وتمتلئ به القلوب على قدر وسعها وسعتها، وعلى قدر ما قُسم لهم من علم اليقين، أو عين اليقين، أو حق اليقين، وتتطهر به النفوس من البدع وسائر المعاصي. ومثَّل العمل الخالص الذي تَصَفَّى من الرياء والعجب وسائر العلل، بالحديد المصفى من خبثه؛ لتصنع منه السيوف والآلات، أو النحاس المصفى لتصنع منه الأواني، وغيرها مما ينفع به الناس. ومثَّل الحال الصافي من العلل بالذهب المصفى أو الفضة، إذا صفيت وذهب خبثها؛ ليصنع بهما الحلي والحلل؛ ليتزين بها أهلها، فأشار إلى المثال الأول وهو ا لعلم بقوله: {أنزل من السماء ماء} إلخ. وأشار إلى الحال بقوله: {ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية}، وأشار إلى العمل بقوله: {أو متاع زبد مثله}. وقدَّم الحال لشرفه، ومثَّله بالذهب والفضة؛ لزيادة الرغبة فيه؛ لأنه ثمرة العمل، ومرجعه إلى الوجدان والأذواق، وهو عزيز لا يجده إلا المقربون. والحاصل: أن المراتب أربعة: العلم، والعمل، والحال، والمقام. وإنما لم يضرب الحق تعالى مثلاً للمقام؛ لأن النزول فيه لا يكون إلا بعد التصفية، فليس فيه علة، يحتاج إلى التصفية منها. فمقامات اليقين كلها يجري فيها العلم، والعمل، والحال، والمقام. فالتوبة مثلاً: يتعلق العلم بمعرفة حقيقتها وفضليتها، ثم يسعى في العمل بالمجاهدة والرياضة حتى يذهب زبده وخبثه، حتى يذوق حلاوة الاستقامة مع بقية الخوف من السقوط، وهذا هو الحال، ثم تطمئن النفس، وترسخ التوبة النصوح، وهذا هو المقام. وكذلك الصبر، يتعلق به العلم أولاً ثم يسعى في مرارة استعماله حتى يذوق حلاوة الشدة والفاقة ثم يرسخ فيه، وهكذا يجري في المقامات كلها... وهي اثنا عشر مقاماً: التوبة، والخوف، والرجاء، والورع، والزهد، والصبر، والشكر، والرضى، والتسليم، والمحبة، والمراقبة، والمشاهدة، وهي: بروج شمس المعرفة، وقمر التوحيد. وكذلك معرفة الشهود والعيان: يتعلق العلم أولاً بأسرار التوحيد، ثم يعمل في خرق عوائد نفسه حتى تموت، فيشرق عليها أنوار التوحيد، غير أنها تظهر وتخفى، ثم يصير الشهود مقاماً، رسوخاً وتمكيناً. وقد أشار الحكم إلى بعض هذا فقال: «حسن الأعمال نتائج حسن الأحوال، وحسن الأحوال من التحقق بمقامات الإنزال». وكل واحد من الثلاثة يحتاج إلى تصفية حتى يذهب زبده وخبثه؛ فتصفية العلم بالإخلاص والتحقيق، فيذهب عنه قصد الرئاسة والجاه، أو التوصل إلى الدنيا، ويذهب به الشكوك والأوهام؛ فهذا زبده. وتصفية العمل بالإخلاص في أوله، والإتقان والحضور في وسطه، والكتمان في آخره، فيذهب عنه الرياء والعجب به، والتوصل به إلى حفظ نفساني. وتصفية الحال بصحة القصد وإفراد الوجهة، وإذا هاج عليه الوارد ملك نفسه وأمسكها، فيذهب به قصد الظهور، وطلب المراتب الدنيوية والكرامات الحسية، التي هي من حظ النفس وتشتيت القلب، إن لم يفرد وجهته لله، وانحلال عزمه وخمود نوره، إن لم يمسك نفسه عند هواجم الحال. فهذا زبد الحال الذي يذهب عنه بمجاهدة النفس، ويمكث في أرض القلوب صفاء اليقين والمعرفة وخالص العمل في مقام العبودية. وبالله التوفيق.
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} قلت: (أولئك..) الخ: جملة خبر الموصولات، إن رفعت بالابتداء، وإن جُعلت صفاتٍ لأُولي الألباب: فاستئناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات. و(جنات): بدل من (عُقبى الدار). و(من صلُح): عطف على الواو بفصل المفعول، و(سلام عليكم): محكي بحال محذوفة، أي: قائلين سلام عليكم، وحذْفُ الحال إذا كان قولاً كثيرٌ مطرد. يقول الحق جل جلاله: {أفمن يعلم انما أنزِلَ إليك من ربك} هو {الحقُّ} فيستجيب له، وينقاد له {كَمَنْ هو أعمى} عمى القلب، لا يستجيب ولا يستبصر؟ أنكر الحق جل جلاله على من اشتبه عليه الحق من الباطل، بعدما ضرب المثل، فإن الأمور المعنوية، إذا ضرب لها الأمثال المحسوسة، صارت في غاية الوضوح لا تخفى إلاَّ على الخفاشة، الذين انطمس نور قلوبهم بالكفر أو المعاصي. ولذلك قال: {إنما يتذكر أولو الألباب}؛ ذوو العقول الصافية والقلوب المنورة، التي تطهرت من كدر العوائد والشهوات، ولم تركن إلى المألوفات والمحسوسات. ثم وصفهم بقوله: {الذين يُوفون بعهد الله}؛ ما عقدوه على نفوسهم من معرفة عظمة الربوبية والقيام بوظائف العبودية، حين قالوا: {بلى}. {ولا ينقُضُون الميثاق}؛ ما أوثقوه على نفوسهم، وتحملوه من المواثيق التي بينهم وبين الله، وبينهم وبين عباد الله. وهو تعميم بعد تخصيص؛ تأكيداً على الوفاء بالعهود. {والذين يَصِلُونَ ما أمر الله به أن يُوصَلَ} من الرحم، وموالاة المؤمنين، وحُضور مجالس الصالحين، والعلماء العاملين، والاقتداء بقولهم والاهتداء بهديهم. {ويَخْشَون ربهم}: غضبه، وعذابه، أو إبعاده وطرده، {ويخافون سوءَ الحساب}: مناقشته، فيحاسبون أنفسهم قبل ان يُحاسبوا. {والذين صَبرُوا} على مشاق الطاعة وترك المخالفة، أو على ما تكرهه النفوس، ويخالفه الهوى. فعلوا ذلك {ابتِغَاءَ وَجهِ ربهم}؛ طلباً لرضاه، أو لرؤية وجهه وشهود ذاته، لا فخراً ورياء، وطلباً لحظ نفساني. {وأقاموا الصلاة} المفروضة، بحيث حافظوا على شروطها وأركانها، وحضور السر فيها، {وأنفقوا مما رزقناهم} من الأموال فرضاً ونفلاً، {سِراً وعلانيةً}؛ إن تحقق الإخلاص، وإلا تعيَّن الإسرار. أو سراً لمن لا يعرف بالمال، وجهراً لمن يعرف به؛ لئلا يُتهم، أو ليُقتدى به. {ويدرءُونَ بالحسنةِ السيئَةِ} أي: يدفعون الخصلةَ السيئة بالخصلة الحسنة، فيجازون الإساءة بالإحسان؛ امتثالاً لقوله تعالى: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة} [المؤمنون «96]، أو: يدفعون الشرك بقول:» لا إله إلا الله «، أو يفعلون الحسنات فيدرؤون بها السيئات، كقوله {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114]. قيل: نزلت في الأنصار. وهي عامة. ثم ذكر جزاءهم، فقال: {أولئك لهم عُقْبَى الدَّارِ} أي: عاقبة دار الدنيا وما يؤول إليه أهلُها. وهي: الجنة التي فسَّرها بقوله: {جناتُ عَدنٍ} أي: إقامة، {يدخُلونها} مخلدين فيها. والعدْن: الإقامة، وقيل: هي بطنان الجنة، أي: مداخلها لا ربضُها، فيدخلونها {ومن صَلَحَ من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم} أي: يَلْحَقُ بهم مَنْ صلح من أهلهم، وإن لم يبلغوا في العمل مبلغهم، بتعاً لهم وتعظمياً لشأنهم، أو بشفاعتهم لهم. وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة، وأن الموصوفين بتلك الصفات يقرب بعضهم من بعض لما بينهم من القرابة والوصلة في دخول الجنة؛ زيادة في أُنسهم لكن يقع التفاوت في الدرجات والنعيم والقرب، على قدر اجتهادهم في التحقق بتلك الصفات، والدؤوب عليها. والتقييد بالصلاح يدل على أن مجرد الانتساب لا ينفع من غير عمل. {والملائكةُ يدخلون عليهم من كل بابٍ} من أبواب المنازل، أو من أبواب الفتوح والتحف، قائلين: {سلامٌ عليكم}؛ بشارة بدوام السلامة، هذا {بما صبرتم}، أو سلامة لكم بسبب صبركم. {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار} التي سكنوها ورحلوا عنها دارهم هذه. الإشارة: أفمن تَصَفَّتْ مرآة قلبه من الأكدار والأغيار، حتى أبصرت أمطار العلوم والأسرار النازلة من سماء الملكوت على النبي المختار، فتضلع منها حتى امتلأ منها قلبه وسره، ونبع بأنهار العلوم لسانه وفكره، كمن هو أعمى القلب والبصيرة، فلم يرفع بذلك رأساً؟ إنما ينتفع بتلك العلوم أولو القلوب الصافية التي ذهب خبثها، فصفت علومها وأعمالها وأحوالها من زبد المساوئ والعيوب، الذين دخلوا تحت تربية المشايخ، فأوفوا بعهودهم، وواصلوهم، وخافوا ربهم أن يبعدهم من حضرته، أو يناقشهم الحساب؛ فحاسبوا أنفسهم على الأنفاس والأوقات، وصبروا على دوام المجاهدات، حتى أفضوا إلى فضاء المشاهدات، وأقاموا صلاة القلوب وهي العكوف في حضرة الغيبوب وأنفقوا مما رزقهم من سعة العلوم ومخازن الفهوم، ويقابلون الإساءة بالإحسان؛ لأنهم أهل مقام الاحسان. أولئك لهم عقبى الدار؛ وهي العكوف في حضرة الكريم الغفار، تدخل على أبواب قلوبهم المواهبُ والأسرار، تقول بلسان الحال: سلام عليكم بما صبرتم في مجاهدتكم، فنعم عقبى الدار.
{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)} يقول الحق جل جلاله: {والذين ينقُضُون عهد اللهِ...} الذي اخذه عليهم في عالم الذر، حيث قال: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172]، ثم كفروا به بعد بعث الرسل المنبهين عليه. أو ينقضون العهود فيما بينهم وبين عباد الله، أن أعطوا ذلك من أنفسهم، {ويقطعونَ ما أمر اللهُ به أن يُوصل} من الأرحام، أو ممن يدل على الله من الأنبياء، والعلماء الأتقياء؛ فإنَّ الله أمر بوصلهم، {ويُفسدون في الأرض} بالظلم والمعاصي، وتهييج الفتن، {أولئك لهم اللعنةُ}: البُعد والطرد من رحمة الله، {ولهم سُوءُ الدَّارِ}: سوء عاقبة الدار، وهو العذاب والهوان، حيث اغتروا في الدنيا بسعة الأرزاق، وظنوا أن ذلك من علامة إقبال الحق. ولم يدروا أن الله {يبسُطُ الرزقَ لمن يشاءُ}، ولو كان من أهل الشقاء، {ويَقْدِرُ} يُضيقه على من يشاء، ولو كان من أهل السعادة والعناية، {وفرحُوا بالحياة الدنيا} واطمأنوا بها، وقنعوا بنعيمها الفاني، {وما الحياةُ الدنيا} في جنب الآخرة {إلا متاعٌ}؛ إلا متعة لا تدوم، كعُجَالة الراكب وزاد الراعي. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «مَا لي وللدُّنْيَا إِنَّما مثلي ومَثَلُ الدُّنيا كَرَاكبٍ سَافَرَ في يَوْمٍ صائِفٍ، فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرةٍ، ثم رَاحَ عَنْها وَتَركَهَا» والمعنى: أنهم أشِروا بما نالوا من الدنيا، ولم يصرفوها فيما يستوجبون به نعيم الآخرة، واغتروا بما هو في جنبه نزر قليل النفع، سريع الزوال. قاله البيضاوي. الإشارة: لا شيء أفسد على المريد من نقض عهود المشايخ، والرجوع عن صحبتهم؛ فإنه لمَّا دخل في حماهم انقبض عنه الشيطان والدنيا والهوى، وأسفوا عليه، فإذا رجع إليهم، واتصلوا به، فعلوا به ما لم يفعلوا بغيره؛ كمن هرب من عدوه ثم اتصل به. وتنسحب عليه الآية من قوله: {والذين ينقضون عهد الله} إلى قوله: {أولئك لهم اللعنة}؛ أي: البُعد عن الحضرة، {ولهم سوء الدار} وهو: غم الحجاب والبقاء من وراء الباب. فإذا رجعت إليه الدنيا يقال له: {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر}؛ فلا تغتر ولا تفرح بالعرض الفاني، فما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع قليل، ثم التحسر الوبيل.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)} يقول الحق جل جلاله: {ويقولُ الذين كفروا} من أهل مكة: {لولا أنزل عليه آيةٌ} ظاهرة {من ربه} كما أنزلتْ على مَنْ قبله فنؤمن حينئذٍ؟ {قل} لهم: {إنَّ اللَّهَ يُضلُّ مَن يشاء} بعد ظهور الآيات والمعجزات. وليس الإيمان والهداية بيد العبد في الحقيقة. {ويهدي إليه من أناب} أي: من أقْبل ورجع عن عناده من غير احتياج إلى معجزة. قال البيضاوي: وهو جواب، يجري التعجب من قولهم، كأنه قال: قل لهم ما أعظم عنادكم! {إن الله يُضِلُّ من يشاء} ممن كان على صفتكم، فلا سبيل إلى اهتدائه، وإن نزلت كل آية، ويهدي إليه من أناب لما جئت به، بل بأدنى منه من الآيات. ه. الإشارة: تقدم مراراً أن من سبقت له من عند الله عناية الخصوصية، لم يتوقف على ظهور آية. ومن لم يسبق له شيء في الخصوصية لا ينفع فيه ألف آية. فالله يضل من يشاء عن دخول حضرته، ولو رأى من أولياء زمانه ما رأى، ويهدي إلى حضرته من أناب، ورجع بلا سبب. وبالله التوفيق.
{الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ (29)} قلت: الموصول: بدل ممن أناب، أو خبر عن مضمر، أي: هم. والموصول الثاني بدل ثانٍ، أو مبتدأ، وجملة (طوبى): خبر، وهي فُعْلى، من الطيب، كبشرى من البشارة، قلبت ياؤها واواً؛ لضم ما قبلها، ومعناها: أصبت خيراً وطيباً. وقيل: شجرة في الجنة. وسوغ الابتداء بها: ما فيها من معنى الدعاء. يقول الحق جل جلاله: في وصف من سبقت له الهداية واتصفت بالإنابة: هم {الذين آمنوا} بالله وبرسوله إيماناً تمكَّن من قلوبهم، واطمأنت إليه نفوسُهم؛ فإذا حركتهم الخواطر والهواجم، أو فتن الزمان وأهواله {تطمئن قلوبُهم بذِكرِ اللهِ}، وترتاح بذكر الله؛ أُنساً به، واعتماداً عليه ورجاء منه، أو بذكر رحمته بعد القلق من خشيته، أو بذكر آلائه، ودلائله الدالة على وجوده ووحدانيته، أو بكلامه القرآن، الذي هو أقوى المعجزات. قاله البيضاوي. وقال في القوت: معنى تطمئن بذكر الله: تهش وتستأنس به. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرَّحمن الفاسي بعد كلام: والحاصل أن المراد من الطمأنينة: السكون إلى المذكور، والأنس به. ووجود الرَّوْحِ والفرح والانشراح، والغنى به. ه. قال تعالى: {ألا بذِكْرِ الله تطمئن القلوبُ} لا بغيره، فلا تسكن إلا إليه، ولا تعتمد إلا عليه؛ فإن سكنت إلى غيره ذهب نورها، وعظم قلقها. {الذين آمنوا وعملوا الصالحات طُوبَى لهم} أي: لهم عيش طيب وحياة طيبة. أو الجنة، أو شجرة فيها، {وحُسنُ مآبٍ} أي: مرجع يرجعون إليه بعد الموت. الإشارة: الطمأنينة على قسمين: طمأنينة إيمان وطمأنينة شهود وعيان. قوم اطمأنوا إلى غائب موجود، وقوم إلى آخر مشهود. قوم اطمأنوا بوجود الله من طريق الإيمان على نعت الدليل والبرهان، وقوم اطمأنوا بشهود الله من طريق العيان على نعت الذوق والوجدان. وهذه ثمرة الإكثار من ذكر الله. قال الشيخ الشاذلي رضي الله عنه: حقيقة الذكر: ما اطمأن بمعناه القلب، وتجلّى في حقائق سحاب أنوار سمائه الرب. ه. وقال الورتجبي: إنْ كان الإيمان من حيث الاعتقاد، فطمأنينة القلب بالذكر، وإن كان من حيث المشاهدة فطمأنينة القلوب بالله وكشف وجوده. ه. فطمأنينة الإيمان لأهل التفكر والاعتبار من عامة أهل اليمين. وطمأنينة العيان لأهل الشهود والاستبصار من خاصة المقربين. أهل الأولى يستدلون بالأشياء على الله، وأهل الثانية يستدلون بالله على الأشياء؛ فلا يرون إلا مظهر الأشياء. وشتان بين من يستدل به أو يستدل عليه؛ المستدل به عرف الحق لأهله، وأثبت الأمر من وجود أصله، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه، وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه، ومتى بَعُدَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه؟!. كما في الحِكَم. وقال في المناجاة: «إلهي كيف يُستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟!. أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟! متى غِبْتَ حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟!. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: «كيف يُعرف بالمعارف من به عُرفت المعارف؟! أم كيف يُعرف بشيء مَنْ سَبَقَ وجودُه كلَّ شيء؟ أي: وظهر بكل شيء». وفي ذلك يقول الشاعر: عَجِبْتُ لِمَنْ يَبْغِي عَلَيْكَ شَهَادَةً *** وَأَنْتَ الَّذي أَشْهَدْتَهُ كُلَّ شَاهِدِ وقال آخر: لَقَدْ ظَهَرْتُ فَمَا تَخْفَى على أَحَدٍ *** إِلاَّ عَلى أَكْمَهٍ لا يُبْصِرُ القَمَرَا لَكِنْ بَطنْتَ بِما أَظْهَرْتَ مُحْتَجِبِاً *** وكَيْفَ يُبْصِرُ مَنْ بالْعِزَّةِ اسْتَتَرَا وأهل طمأنينة الإيمان على قسمين؛ باعتبار القرب والبُعد: فمنهم من يطمئن بوجود الحق على نعت القرب والأنس، وهم أهل المراقبة من الزهاد والصالحين، والعلماء العابدين المجتهدين، وهم متفاوتون في القرب على قدر تفرغهم من الشواغل والعلائق، وعلى قدر التخلية والتحلية. ومنهم من يطمئن إليه على نعت البعد من قلبه، وهم أهل الشواغل والشواغب، والعلائق والعوائق. وعلامة القرب: وجود حلاوة المعاملة، كلذيذ المناجاة، والأنس به في الخلوات، ووجود حلاوة القرآن والتدبر في معانيه، حتى لا يشبع منه من كل أوان. وعلامة البعد: فقد الحلاوة المذكورة، وعدم الأنس به في الخلوة، وفقد الحلاوة القرآن، ولو كان من أعظم علماء اللسان. وأهل طمأنينة الشهود على قسمين أيضاً: فمنهم من تشرق عليه أنوار، وتحيط به الأسرار، فيغرق في الأنوار وتطمس عنه الآثار، فيكسر ويغيب عن الأثر في شهود المؤثر، ويسمى عندهم هذا المقام: مقام الفناء. ومنهم من يصحو من سكرته، ويفيق من صعقته، فيشهد المؤثر، لا يحجبه جمعه عن فرقه، ولا فرقة عن جمعه، ولا يضره فناؤه عن بقائه، ولا بقاؤه، عن فنائه، يعطي كل ذي حق حقه، ويوفي كل ذي قسط قسطه، وهو مقام البقاء، ولا يصح وجوده إلا بعد وجود ما قبله، فلا بقاء إلا بعد الفناء، ولا صحو إلا بعد السكْر. ومن ترامى على هذا المقام أعني مقام البقاء من غير تحقيق مقام السكر والفناء فهو لم يبرح عن مقام أهل الحجاب. واعلمْ أن طمأنينة الإيمان تزيد وتنقص، وطمأنينة العيان، إن حصلت، تزيد ولا تنقص. فمواد أسباب زيادة طمأنينة الإيمان أشياء متعددة، فمنهم من تزيد طمأنينته بالتفكر والاعتبار. إما في عجائب المصنوعات وضروب المخلوقات، فيطمئن إلى صانعٍ عظيم القدرة باهر الحكمة. وإما بالنظر في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، وباهر علمه، وعجائب حكمه وأسراره، وإخباره بالأمور الغيبية السابقة والآتية، مع كونه نبياً أمّياً. فإذا تحقق معرفة الرسول فقد تحقق بمعرفة الله، واطمأن به؛ لأنه الواسطة العظمى، بين الله وبين عباده. ومنهم من تزيد طمأنينته بموالاة الطاعات وتكثير القربات، كالذكر وغيره. ومنهم من تزيد طمأنينته بزيادة الأولياء أحياء أو ميتين. ومادة الأحياء أكثر، ونور طمأنينتهم أبهر، لا سيما العارفين، وفي الأثر: تعلموا اليقين بمجالسة أهل اليقين. وأما طمأنيته أهل الشهود: فزيادتها باعتبار زيادة الكشف وحلاوة الشهود، والترقي في العلوم والأسرار، والاتساع في المقامات إلى ما لا نهاية له، في هذه الدار الفانية وفي الدار الباقية، ففي كل نَفَس يُجدد لهم كشوفات وترقيات ومواهب وتُحف، على قدر توجههم وتحققهم. حققنا الله بمقامهم، وأتحفنا بما أتحفهم. آمين ولا بد في تحصيل طمأنينة الشهود من صُحبة شيخ عارف طبيبٍ ماهر، يقدح عين البصيرة حتى تنفتح؛ فما حجب الناس عن شهود الحق إلا طمسُ البصيرة؛ فإذا اتصل بشيخٍ عارفٍ كحل عين بصيرته أولاً بإثمد على اليقين، فيدرك شعاع نور الحق قريباً منه، ثم يكحل عينه ثانياً بإثمد عين اليقين، فيدرك عدمه لوجود الحق، أي: يغيب عن حسه بشهود معناه القائم به. ثم يكحل عينه بإثمد حق اليقين، فيدرك وجود الحق بلا واسطة قدرة وحكمة، معنى وحساً، لا يتحجب بأحدهما عن الآخر. وإلى هذا أشار في الحِكَم بقوله: «شعاع البصيرةُ يُشهدك قرب الحق منك، وعين البصيرة يُشهدك عدمك لوجوده، وحق البصيرة يُشهدك وجود الحق، لا عدمك ولا وجودك. وكان شيء معه، وهو الآن على ما كان عليه.
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)} قلت: (كذلك): مفعول مطلق بأرسلناك، أي: مثل ذلك الإرسال المتقدم أرسلناك. وقال ابن جزي: الكاف تتعلق بالمعنى الذي في قوله: {يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب}. ه. أي: كما أن الإضلال والهداية بيده كذلك اختصاصك بالرسالة إلى أمة... إلخ، وجملة: (وهم يكفرون): حال من ضمير (عليهم) أي: لتتلو عليهم في حال كفرهم لعلهم يؤمنون. و(متاب): مفعل، من التوبة. يقول الحق جل جلاله: قد أرسلنا قبلك رسلاً فأنذروا وبشروا قومهم، {كذلك أرسلناك} أي: مثل ذلك الإرسال أرسلناك في أمة، أو كما هدينا من أناب إلينا اختصصناك برسالتنا، {في أُمةٍ قد خَلتْ}؛ مضت {من قبلها} أي: تقدمها {أممٌ} أرسل إليهم رسلهم؛ فليس ببدع إرسالك إلى هذه الأمة الأمية، {لِتَتلُوَ عليهم الذي أوحينا إليك}: لتقرأ عليهم الكتاب، الذي أوحينا إليك، والحالة أنهم {يكفرون بالرحمن} أي: بالبليغ الرحمة التي أحاطت بهم نعمته، ووسعت كل شيء رحمته، فلم يشكروا ما أنعم به عليهم، وخصوصاً إرسالك إليهم، وإنزال القرآن عليهم، الذي هو مناط المنافع الدينية والدنيوية. قيل: نزلت في أبي جهل، وقيل: في قريش حين قالوا: لا نعرف الرحمن، والمعنى: أرسلناك إليهم رحمة لتتلوا عليهم ما هو مناط الرحمة، {وهم يكفرون بالرحمن}، والحال: أنهم يكفرون ببليغ الرحمة. {قل هو ربي} أي: الرحمن خالقي ومتولي أمري، {لا إله إلا هو}، لا مستحق للعبادة غيره، {عليه توكلتُ} في أموري، ومن جملتها نصري عليكم. {وإليه مَتَابِ}؛ مرجعي في أموري كلها، لا أرجع إلى أحد غيره، ولا أتعلق بشيء سواه. الإشارة: قد بعث الله في كل عارفاً بالله يحيي به الدين، ويعرف الطريق إلى رب العالمين؛ فالأرض لا تخلو ممن يقوم بالحجة، غير أنهم تارة يخفون، لفساد الزمان، وتارة يظهرون؛ رحمة للأنام. فإذا وقع الإنكار عليهم، أو استغرب وجودهم، يقال لهم: كذلك أرسلنا في كل أمة نذيراً، وداعياً، فإرسالكم أنتم وإظهاركم ليس ببدع، لتعلموا الناس ما أوحي إليكم من طريق الإلهام؛ فإظهاركم رحمة، وهم يكفرون هذه النعمة. فاعتمدوا على الرحمن، وثقوا بالواحد المنان، وراجعوا إليه في كل حال وشأن. فمن توكل عليه كفاه، ومن التجأ إليه حماه.
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)} جواب (لو): محذوف، أي: لم يؤمنوا؛ لسابق الشقاء، أو: لكان هذا القرآن، وسيأتي بيانه. يقول الحق جل جلاله: {ولو أن قرآناً} أنزل عليك، من صفته: {سُيِّرت به الجبالُ} أي: زعزعت عن مقارها، {أو قُطعَت به الأرضُ}: تصدعت وتشققت من خشية الله عند قراءته، أو: تشققت فجعلت أنهاراً وعيوناً، {أو كُلِّمَ به الموتى}؛ فتجيب من قبورها جهراً، لمّا آمنوا؛ لعنادهم وغلبة الحسد عليهم. فهذا كقوله تعالى {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا} [الأنعام: 111]، أو: ولو أن قرآناً بهذه الصفة: من تسيير الجبال، وتقطيع الأرض، وتكليم الموتى، لكان هذا القرآن؛ لأنه الغاية في الإعجاز، والنهاية في التذكير والإنذار، والأرل أرجح؛ لمناسبة ما قبله وما بعده. رُوي أن قريشاً قالوا: يا محمد، إنْ سَرَّك أن نتبعك فَسَيِّرْ بقرآنك الجبالَ عن مكة، حتى تتسع لنا فنتخذها بساتين وقطائع. أو سخر لنا به الريح لنركبها، فَنَتَّجِرَ بها إلى الشام. أو ابعث لنا قُصَيَّ بن كلاب فإنه شيخَ صِدْقٍ، أو غيره من آبائنا، فيكلمونا فيك، ويشهدوا لك بما تقول. فنزلت الآية. {بل لله الأمرُ جميعاً}؛ ليس لي منه شيء، فهو القادر على الإتيان بما اقترحتموه من الآيات، إلا أن الإرادة لم تتعلق بذلك؛ لأنه علم أنه لا ينجع فيكم شيء من ذلك؛ لفرط عنادكم، فإذا رأيتموها قلتم: {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} [الحجر: 15]، وبيَّن ذلك قوله: {أفلم ييأس الذين آمنوا} من إيمانهم مع رأوا من أحولهم، وفرط عنادهم، علماً منهم {أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً}، أو: {أفلم ييأس} أي: يعلم {الذين آمنوا} أن الهداية بيد الله، ومشيئته، فلو شاء لهدى الناس جميعاً، وكون «ييأس» بمعنى «علم»: لغة هوازن؛ فقد علموا بما أعلمهم أن الله لا يهدي من يضل. وقد قرأ علي وابن عباس وجماعة: «أفلم يتبين الذين آمنوا»، وهو يقوي تفسير ييأس بيعلم. قال البيضاوي: وإنما استعمل اليأس بمعنى العلم، لأنه مُسَبِّبٌ عن العلم، فإن الميئوس منه لا يكون إلا معلوماً. ولذلك علّقه بقوله: {أن لو يشاء اللهُ لهدى الناس جميعاً}؛ فإن معناه نفي هدى بعض الناس؛ لعدم تعلق المشيئة باهتدائهم، وهو على الأول يتعلق بمحذوف تقديره: أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمانهم؛ علماً منهم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً. أو: بآمنوا، على حذف الجار، أي: بأن الله... الخ. ه. {ولا يزال الذين كفروا} من قريش والعرب، {تُصيبُهم بما صنعوا} من الكفر والمعاصي، {قارِعةٌ} داهية تقرعهم؛ تقلقهم، وتصيبهم في أنفسهم وأولادهم وأموالهم. أو غزوات المسلمين إليهم، إمَّا أن تنزل بهم {أو تَحُلُّ قريباً من دارهم} فيفزعون منها وتتطاير إليهم شررها. وقيل: نزلت في كفار مكة، فإنهم لا يزالون مصابين بما صنعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يزال يبعث السرايا، فتُغير حواليهم وتختطف أموالهم. وعلى هذا يجوز أن يكون ضمير {تَحُل} خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم أي: تحل بجيشك قريباً من دراهم، {حتى يأتي وعد الله} بالموت أو بالبعث أو فتح مكة. {إنَّ الله لا يُخلف الميعاد}؛ لامتناع الخلف في وعده تعالى. الإشارة: لو أن عارفاً بالله سيَّر الجبال عن أماكنها وفجر الأرض عيوناً، وكلمه الموتى لما آمن بخصوصيته إلا من سبقت له عناية الخصوصية. فلو شاء الله لهدى الناس إلى معرفته جميعاً. لكن الحكمة اقتضت وجود الخلاف، قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118]، فمن لم يهتد إلى معرفتهم لا يزال تطرقه قوارع الشكوك والأوهام، وخواطر السوء، أو تحل قريباً من قلبه، إن لم تتمكن فيه، حتى يأتي وعد الله بحضور موته، فقد يتداركه اللطف والرعاية، وقد يتسع الخرق عليه فيموت على الشك، والعياذ بالله. بخلاف من صَحِبَ أهل الطمأنينة واليقين، ولا يموت إلا على اليقين؛ لأن همة الشيوخ قد حَلَّقَتْ عليه، والعناية قد حفت به. والله ولي المتقين. قال أبو الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: (والله لا يكون الشيخ شيخاً حتى تكون يده مع الفقير أينما ذهب)، والمراد باليد: الهمة والحفظ. ووقت الموت أولى بالحضور، وقد شاهدنا ذلك من إخواننا ممن حضره الموت منهم، أخبر أنه يرى شيخه حاضراً معه. فللَّهِ الحمد والمنة.
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)} يقول الحق جل جلاله: في تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم: {لقد استُهزئ برسلٍ من قبلك} فأوذوا وأهِينُوا، {فأمْلَيتُ للذين كفروا}: أمهلتهم في دعة ورغد عيش، مدة من الزمان، {ثم أخذتهم} بالهلاك والاستئصال، {فكيف كان عقاب} ؟ أي: عقابي إياهم، وهو تهويل لما نزل بهم، وتخويف لغيرهم من المستهزئين بالرسول صلى الله عليه وسلم والمقترحين عليه الآيات. الإشارة: الاستهزاء بأهل الخصوصية في بدايتهم سنة ماضية، ويتسلون بمن سلف من خصوص الأنبياء والأولياء. وما هدد به الكفار يهدد به أهل الإنكار. بالله التوفيق.
{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} قلت: (أفمن) مع صلته: مبتدأ، والخبر محذوف، أي: أفمن هو رقيب على كل شيء أحق أن يعبد أم غيره. أو كمن ليس كذلك؟!. يقول الحق جل جلاله: {أفَمَنْ هو قائمٌ على كل نَفْس}؛ أي: حفيظ رقيب على عمل كل نفس {بما كسبتْ} من خير أو شر، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، ولا يفوت عنده شيء من جزائهم أحق أن يُعبد أم غيره؟ أو كمن ليس كذلك ممن هو جماد لا يسمع، ولا يعقل!!. {وجعلوا لله شركاءَ} بعد هذا البيان التام، {قل} لهم: {سَمُّوهُم} أي: اذكروا أسماءهم، فلا تجدون إلا أسماء إناث؛ كاللات والعزى ومناة، أو أسماء أحجار وخشب؛ فبأي وجه تستحق أن تعبد، وتشرك مع الله في ألوهيته؟. {أم تُنبِئُونه بما لا يعلمُ في الأرضِ}؛ بل أتخبرونه بما لا يعلم وجوده في الأرض، وهذا تهكم بهم، كأنهم علموا استحقاق الأصنام العبادة، ولم يعلمها الحق تعالى، وهو محال. والمعنى: أن الله لا يعلم لنفسه شركاء وإذا لم يعلمهم فليسوا بشيء، فكيف تفترون الكذب في عبادتهم؟ {أم} تسمونهم شركاء، {بظاهرٍ من القولِ}، من غير حقيقة واعتبار معنى، كتسمية الخبث مسكاً، والبول عطراً. {بل زُيِّن للذين كفروا مكرُهُم} أي: انخداعهم وغرورهم حتى توهموا الباطل حقاً، أو مكرهم بالإسلام وكيدهم لأهله، {وصدُّوا عن السبيل} أي: وصدوا الناس عن طريق الحق، حيث منعوهم من الإسلام، ومن قرأ بضم الصاد مبنياً للمفعول فمعناه: صدَّهُم الشيطانُ عن طريق الحق وضلوا عنه. {ومن يُضلل اللَّهُ فما له من هَادٍ} أي: من يخذله الله فليس له من يوقفه غيره. {لهم عذابٌ في الحياة الدنيا} بالقتل والأسر، وسائر ما يصيبهم من المصائب، {ولعذابُ الآخرة أشقُ}؛ لشدته ودوامه، {وما لهم من الله} اي: من عذابه {من واقٍ} يقيهم ويعصمهم منه. الإشارة: كل من تحقق أن الله قائم عليه استحيا منه أن يُسيء الأدب بين يديه، يقول الله تعالى في بعض الأخبار: «إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخلل في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فَلَمَ جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟» وكل من وقف مع الأسباب واعتمد عليها، أو طمع في الخلق وركن إليهم، فقد جعل لله شركاء، فيقال له: سَمِّ هؤلاء تجدهم حقاً عاجزين، لا قدرة لهم على شيء، ولا ينفعوك بشيء إلا ما قَسَم الله لك في الأزل. بل زين لضعفاء اليقين مكرهم، حتى انخدعوا وافتتنوا برؤية الأسباب، أي: كفروا كفراً دون كفر؛ بأن شكّوا في الرزق والشكُّ في الرزق شكٌ في الرزَّاق، وصدوا عن طريق اليقين، الغنى برب العالمين، لهم عذاب في الحياة الدنيا بالذل والحرص والحرمان. قال بعض العارفين: لو قيل للطمع: من أبوك؟ لقال: الشك في المقدور، ولو قيل له: ما حرفتك؟ لقال: الذل والهوان، ولو قيل له: ما غايتك؟ لقال: الحرمان. وفي الحِكَم: «ما بَسَقَتْ أغصانُ ذُلٍّ إلا عَلَى بَذْرِ طَمعٍ». وقال الشاعر: العَبدُ حُرٌّ مَا قَنَع *** والحرُّ عَبدٌ ما طَمعْ ولعذاب الآخرة أشق؛ حيث يسقط بضعف يقينه عن درجة المقربين على سبيل الدوام، وما لهم من الله من واق يقيهم من غم الحجاب، وعدم اللحوق بالأحباب الذين ترقوا إلى القرب من الحبيب. والله تعالى أعلم.
{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)} قلت: (مثل الجنة): مبتدأ. قال سيبويه: الخبر محذوف، أي فيما يتلى عليكم صفة الجنة. وقال الفراء: الخبر هو: (تجري...) إلخ، وعلى قول سيبويه يكون (تجري): حالاً من العائد المحذوف، أي: التي وُعدها المتقون حَالَ كَوْنِها تجري... إلخ. والمراد بالمثل هنا: الصفة، لا ضرب المثل. و(ظِلُّها): مبتدأ حُذِف خبره، وظلها كذلك، والأكُل بضم الهمزة، ويجوز فيه ضم الكاف وإسكانها، وأما الأكل بالفتح فمصدر. يقول الحق جل جلاله: صفة الجنة التي وُعِدَها المتقون هي غرف وقصور {تجري من تحتها الأنهارُ} من ماء وخمر وعسل ولبن، {أُكُلُها دائمٌ}؛ ما يؤكل من ثمارها وأنواع أطعمتها لا ينقطع، {وظِلُّها} دائم، لا يُنسخ بالشمس كظلال الدنيا، {تلك} الجنة الموصوفة بهذه الأوصاف هي {عُقْبَى الذين اتقوا} الشرك والمعاصي، وهي مآلهم وعاقبة استقرارهم، {وعُقْبَى الكافرين النار} لا محيد عنها، وهي مآلهم وإليها رجوعهم. وفي ترتيب العقبيين إطماع للمتقين، وإقناط للكافرين. الإشارة: مثل جنة المعارف التي وعدها المتقون لكل ما يشغل عن الله هي حضرة مقدسة، يتنعم فيها أسرار العارفين، تجري من تحت قلوبهم أنهار العلوم والحكم، لذتها وقُوت الأرواح فيها دائم، وهي الفكرة في ميادين أنوار التوحيد، وجولان الروح في فضاء أسرار التفريد، وظل روحها وريحانها دائم، وهو: سكون القلب إلى الله، وفرح الروح بشهود الله. وإليه أشار ابن الفارض بقوله، رحمه الله، في صف خمرتها: وَإِنْ خَطَرَتْ يَوْماً عَلَى خَاطِرِ امرئ *** أَقامَتْ بِهِ الأَفرَاحُ وارْتَحَلَ الْهَمُّ تلك عقبى الذين أتقَّوا السِّوى، وعقبى المنكرين لوجود أهل هذه الجنة نار القطعية والبعد. أعاذنا الله من ذلك.
{وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)} قلت: (حُكْماً): حال من ضمير (أنزلناه). يقول الحق جل جلاله: في حق من سبقت له السعادة: {والذين آتيناهم الكتابَ}؛ كعبد الله بن سلام ومخيريق وأصحابهما، ومن أسلم من النصارى، وهم: ثمانون رجلاً: أربعون بنجران، وثمانية باليمن، واثنان وثلاثون من الحبشة. أو: كل من آمن من أهل الكتاب، فإنهم كانوا {يفرحون} بما يوافق كتبهم. ثم ذكر ضدهم فقال: {ومن الأحزاب من يُنكرُ بعضَه} أي: ومن كَفَرتهِم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة والشحناء؛ ككعب بن الأشرف وأصحابه من اليهود، والعاقب والسيد وأشياعهما من النصارى، {من يُنكر بعضه}، وهو ما يخالف شرائعهم التي نُسخت به، أو ما يوافق ما حرّفوا منها. {قل إنما أُمِرتُ أن أعبدَ اللهَ ولا أُشركَ به}، وهو جواب للمنكرين، أي: قل لهم: إنما أمرت فيما أنزل إليَّ أن أعبد الله وأوحده، وهو العمدة في الأديان كلها، فلا سبيل لكم إلى إنكاره. وأما إنكاركم ما يخالف شرائعكم فليس ببدع مخالفة الشرائع والكتب الإلهية في جزئيات الأحكام؛ لأنها تابعة للمصالح والعوائد وتتجدد بتجددها. {إليه أدعو} لا إلى غيره، {وإليه مآب} أي: وإليه مرجعي بالبعث لا إلى غيره. وهذا هو القدْر المتفق عليه من الشرائع، وهو الأمر بعبادة الله وحده، والدعاء إليه، واعتقاد المآب إليه، وهو الرجوع بالبعث يوم القيامة؛ فلا يخالف ما قبله من الشرائع، فلا معنى للإنكار حينئذٍ. {وكذلك أنزلناه} أي: ومثل هذا الإنزال المشتمل على أصول الدين المجمع عليها، {أنزلناه حُكْماً عربياً} أي: يحكم في القضايا والوقائع، بما تقتضيه الحكمة، مترجماً بلسان العرب؛ ليسهل عليهم فهمه وحفظه. {ولئن اتبعتَ أهواءَهُم} التي يدعونك إليها؛ كتقرير دينهم، والصلاة إلى قبلتهم بعدما حُوِّلْتَ عنها، {بعد ما جاءَك من العِلم} بنسخ ذلك، {ما لك من اللهِ من ولِيٍّ} ينصرك، {ولا واقٍ} يقيك عتابه. وهو حسم لأطماعهم، وتهييج للمؤمنين على الثبات في دينهم. وبالله التوفيق. الإشارة: الفرح بما أُنزل من عند الله هو مقدمات الفرح بالله، فإذا رفعت أكنة الغفلة عن القلب تلذذ بسماع الخطاب من وراء الباب، وذلك أمارة القرب. وهذا مقام أهل المراقبة من المحبين. فإذا جدَّ في السير رُفعت عنه الحجب والأستار، وواجهته الأنوار والأسرار، فيكاشف بأسرار الذات وأنوار الصفات، فيتلذذ بشهود المتكلم، فيسمع حينئذٍ الكلام من المتكلّم به بلا واسطة. وهذا مقام أهل الشهود من المحبين المقربين. (ومن الأحزاب)، وهم أهل الرئاسة والجاه، من ينكر وجود بعض هذه المقامات؛ تعصباً وحمية. أو ينسبها لنفسه غلطاً وجهلاً، فيقول له من تحقق بهذا المقام: إنما أمرتُ أن أعبد الله ولا أشرك به، إليه أدعو وإليه مآب. ويغيب عنه بالاشتغال بالله، وبالدعاء إليه، فإن غفل واشتغل به، أو ركن إلى قوله، قيل له: ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم؛ ما لك من الله من وليِّ ولا واق.
|